الخميس، 8 أكتوبر 2009

أحبه ولا أزال ....( الحب الاول - ليس اولا )


أحبه ولا أزال ....( الحب الاول - ليس اولا )

الاحد, 16 نوفمبر, 2008


كاذبون كلنا كاذبون نقول بأننا نسينا ونؤكد أننا قد تجاوزنا ونُصَر على أن هذا الماضي المطروح على رمال الحياة لا يعنينا في شيء...و لا حتى تُزعجنا تلك القصة التي تجرعنا كل تفاصيلها كدواء مُر ... لا يفضي إلى أي شفاء .... هو حبٌ أول انتهى وغادرنا بسلام
ونحن لا نعدو أن نكون سوى كاذبين نتقن فن الثرثرة ... ونحترف ابتكار صبغات جديدة نصبغُ بها أحاديثنا المزورة .
عن نفسي لم ُأدرك حجم غبائي ذاك الذي كان يتوغل في طباعي .... إلا البارحة فقط ..غريبٌ هو أمري أليس كذلك ؟؟ متأخرٌة جدا عن المفترض والكائن ...ولكنها كعادة الأشياء معي قلما تأتي في حينها ... فقد اعتدت فعل الحضور المتأخر حتى بت لا أرجو سواه
قبل البارحة لم أكن أظنُ أن للصدفِ مثل هذا الدوِر الكبير في حياتنا المزدحمة بالممكنات الصغيرة ... ولم أكن ُأعَول في كثيٍر من الأحيان على مثل تلك المفارقات التي يلقيها صُناع الفنِ في وجوهنا بسذاجة مفضوحة ...ولكن ما حدث في ذلك اليوم كان من أمثلة تلك اللقاءات المرسومة المتهمة سلفًا بالإعداد السينمائي المتواطئ المفبرك.
كانت ريم تشُد ياقة السترة المنسدلةِ على أكتافي وتعبثُ بشرشرات الشال ذي التقليمات الحادة المتدلي على رقبتي ...و المرقش بخيوط من فضة مطفئة ....ليرتخي فوق رقبتي الملتفعه بالالم ... تاركا الفرصة لريم لتحبك خيوط طفولتها عليه ... كنت ادفع بالسلة المنتصبة فوق العجلات التي تُصَدر الصرير والصخب ... وتخز رأسي مقدمات صداع طويل اعرفها جيدا .... ادفع العربة التي تتكوم فوقها الحاجيات بلا ترتيب ... ويرافقني ضجيج طفولي ممتع للحواس و رأسي يمتلئ بالصهد و بنُذرٍ تشي بغثيان مرتقب ....
كنت ُاقلبُ الُعلب ... أقرأ المكونات.....و استعرض القائمة المزدحمة التي احمل خربشاتها بين أصابعي الملبدة بالوجع والترقب ....وريم توقظ في نفسي ميل فطريًا للهو غريب...غاب عني منذ اعوام
ربما كان للمشاعر مدى بصري اشسع من مدى العيون المنحصر في مساحات محددة لا يعرفها سوى الاناسُ العاديون من أمثالنا الذين يلجئون للاشعة الصغيرة التي تكشف لهم ماهو كائن امامهم بلا ... محاولات تفضح المستقبل او تُنير المقبل من الامور..... الا ان مشاعري اليوم كانت تُبصر أمرًا عصَي على الاستبصار الفردي الفقير ... و كانت تلغط بهمهمات لم اعرها اهتماما من اي نوع ... كانت تقول بإصرارٍ عنيف " وهجٌ ما سيصطدم بكِ عما قليل " ....
وكنت أشمُ في الهواء بقايا ذاكرة قديمة تفوحُ بالعفن... لكني كنت اكَذب هذه الحاسة التي داهمتني للمرة الأولى هنا وأنا أعصر الزمن فينجب ترقب ذميم .
قرب الرف المزدحم بقصص الشاي ورائحة القهوة رأيته فحاول عقلي تدارك خطأه القديم .. رغما عني أعاود سن النظرة حتى تتعرف على تقاطعات الملامح شبه منسيه ..... حاولت ذاكرتي المترهلة أن تستحضره ... وجاهد عقلي الشاحب حتى يتذكره .... تراه من يكون صاحب هذا الطيف الرجولي الطافح بالحضور والإمتاع ...
كذب كله كذب لاتصدقوه لم انساه لم اتجاوزه ولم يغيب عني حتى يعود ولم تفارقني ملامحه حتى اجتهد في استعادتها أنا كاذبة ....
نعم فانا اعرف هذه الظواهر الذكورية جيدا .... وأدرك تماما طبيعة هذا التجلي المشاعري المختلج .... كانت عيناه تتجول في فضائي فتقطع زواياي الحادة .... وتستقر حول الاستدارات البشعة حيث تنام الكتل وتبني مستعمراتها صعبة التدمير .... انزوي وانكمش وأعيد رصف الشال المستلقي على الوسط ليخبأ الخجل و يدثر الارتباك فغالبا ما تفشل المحاولة.
ظننته انتهى ... ظننته زال ورحل وغاب ولم يعد له وجود .... كنت أقول حين يمط الاخرون شفهاهم المستفهمه ...حول القصة التي خلخت واقعي فتركتني مطموره بالوحده ... ووحمات عنوسه سقيمه ترتسم على مساحات جبيني.... فانثني بصوت يلتبس فيه الكبرياء بالكذب " هو لا يستحق فضل الكراهية هو أدنى من أن يكره هو لا يستحق سوى فعل التجاهل ذاك الفعل الذي نمن به على الأحذية والأقلام و الكراسي " هو ادنى من كل تلك التفاصيل .
وكنت كاذبة ... ففي داخلي حنين صاهل اليه ، كلما جن الليل وتشربني السكون انخلعُ شوقًا إلى حكايتي معه .
تمتد نظراته المتلهيه لتشحن انفعالي وتجيش بي حتى تلون وجنتي اللامعة بالذاكرة ، فيسكنني ارتباك اسيل ... ترفع رأسها فتضيء نظرتها المحيط إنها ريم التي يدمدم في عينيها الصغيرتين الطهر ..... بينما فضوله ينهال ندى ازرق علينا ..... لازال هو ذاك الذي اعرفه ربما انكمش فيه الطيش و تراجع في عينيه النزق ولكن لا تزال تلك الطفولة تقفز بعنفوان من بين تجعيدات الشباب – تلك التي لم تصمد علاقتنا طويلا لأعرفها – أراها اليوم محفورة في زوايا السواد ، ضخ الدماء يتصاعد في قلبي فيقرع الدوي في أذني و أكاد اسقط .
الملم الارتباك والوذ بالرحيل وادفع العجلات فيما تريق ريم طفولتها على ثيابي .. نعم أردته أن يعلم إنني أصبحت أم ... ولو كذبا أصبحت أم ... ولو كنت اما لطفلة سرقتها من أختي ... وأستعيرها في كثير من الأحيان حتى أمارس فيها متعة الامومة الملونة على أطرافي ... لا أريد لشفقته أن تتفتق أمامي لا أريد أن يمطرني بوابل من حسرة أراها متشربه للعيون في كل المناسبات والأحداث ...هو تحديدا انا في غنى تام عن شفقته التي تذكرني بخذلانه ... فأسمع الصدى يردد وهو يستنطق جملا غبية كان اخرها " قصتنا لن تنجح وعلاقتنا لن تصلح وما بيننا لن يتم كلانا يعرف ذلك " فيدمغني الذهول و يلجمني خوف الادماع السريع .
أزيح اكداس الاكياس المستقرة في ظهر السيارة واحكم الحزام الندي على خصر ريم ، في المراة المستطيلة التي تودع صورته وحكايتي المغبشة ... القي نظرة اخيرة على ما ينهض في عيني .... فلا اجد سوى الجفاف ... وافتش عن شيء جميل بقي لدي ... وعندما لم اجد ... ابتلعت كدري المتكور بالمرارة .... وتدثرت بشيء كبير من يأس وزهد ... ورحلت ... وأنا أقول ها قد وضعنا الخاتمة ها قد نسيته الآن
لا تصدقوا وهما كهذا فانا كاذبة
أنا أحبه ولا أزال ....

كانت تكذب حتى في ابسط الأشياء تعود البيت بقصص غريبة عن أشياء حدثت لها وأناس قابلتهم لا يمكن أن يصدقها العقل ولا استبعد إنها كانت عديمة الأهل كأنها شهرزاد متسولة ولكنها كانت مفرطة في الذكاء ومفرطة في الظرف حين تشاء يحيط بها حيث تكون لفيف من المعجبين يرفون حولها كالذباب وكنت أحس إحساسا داخليا إنها رغم تظاهرها بكراهيتي كانت مهتمة بأمري حين يجمعني وإياها مجلس تراقبني بطرف عينها وتحصي جميع حركاتي وسكناتي وإذا رأت مني اهتماما بفتاة ما سارعت إلي إساءتها والقسوة عليها
من رواية موسم الهجرة إلى الشمال – الطيب صالح

ليست هناك تعليقات: